فصل: مسألة يقول لا أجد ما انفق على امرأتي إلا الخبز وحده هل يفرق بينهما:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة امرأة المفقود التي لم يدخل بها ما لها من الصداق إذا جاء زوجها وقد تزوجت:

وسئل ابن القاسم عن امرأة المفقود التي لم يدخل بها، ما لها من الصداق إذا جاء زوجها وقد تزوجت؟ وهل تكون تلك الفرقة طلاقا؟ وهل عليها في العدة إحداد؟ وهل هي من أهل العدة التي إذا تزوجت فيها فرق بينهما ثم لا يجتمعان أبدا؟ فقال ابن القاسم: إن كان لم يدخل بها زوجها الآخر، ردت إلى زوجها الأول، وإن كان قد دخل بها زوجها الآخر، ردت إلى زوجها الأول نصف الصداق، فإن كان قد دخل بها زوجها الآخر، ثم جاءت بينهما فرقة من موت أو طلاق، ثم تزوجها الأول، كانت عنده على تطليقتين، وكانت فرقته تطليقة. قال ابن القاسم: وعليها الإحداد في العدة بعد الأربع سنين في الأربعة أشهر وعشر، وإن دخل بها فيها فرق بينهما، ولم ينكحها أبدا وكان كمن تزوج في العدة.
قال محمد بن رشد: قد مضى في رسم أسلم من سماع عيسى، القول في حكم صداق التي تفقد زوجها قبل الدخول، ومضى في رسم شك في طوافه من سماع ابن القاسم، الاختلاف في وجوب الإحداد عليها في العدة، ومضى في رسم أسلم من سماع عيسى من كتاب النكاح، القول فيمن تزوج في هذه العدة، مستوفى، فأغنى ذلك عن إعادة شيء من ذلك، وبالله التوفيق.

.مسألة تدعي على زوجها أنه طلقها وليست لها بينة ثم يموت زوجها:

وسئل ابن القاسم عن المرأة تدعي على زوجها أنه طلقها، وليست لها بينة، ثم يموت زوجها، فتطلب ميراثها منه، فيقول لها الورثة: ليس لك ميراث، أليس قد زعمت أنه قد طلقك؟ فتقول: إنما ادعيت ذلك؛ لأني كنت أبغض المقام معه، ولم يطلقني، فقال: أرى لها الميراث، قال محمد بن خالد عن ابن نافع مثله.
قال محمد بن رشد: وكذلك لو ادعت أنه طلقها ثلاثا، ثم صالحته، فأرادت أن تتزوجه قبل زوج، وزعمت أنها إنما ادعت ذلك؛ لأنها كانت تبغض المقام معه، لكان ذلك لها على قياس هذه الرواية، وهو قول ابن المواز، وعلى قوله يحمل ما في رسم جاع من سماع عيسى من كتاب النكاح، وما يأتي في سماع أصبغ بعد هذا من هذا الكتاب. وقد قال بعض رواة أهل المدينة: إنها لا تصدق في الميراث، ولا في الرجوع إلى زوجها، وفرق سحنون بين المسألتين فقال: يكون لها الميراث، ولا تمكن من الرجوع إلى زوجها إلا بعد زوج، وأما إذا زعمت بعد أن صالحته أنه طلقها ثم أرادت أن تتزوجه قبل زوج، فلا تمكن من ذلك، أو زعمت أنه طلقها بعد أن مات، فلا يكون لها ميراث. وقد روى زياد بن جعفر عن مالك في المدنية أنها ترثه. وإن مات، وهي ثابتة على قولها، وهو بعيد، وبالله التوفيق.

.مسألة يفقد أو يغيب فينفق رجل على أهله وولده فيقدم أو يموت في غيبته:

وقال في الرجل يفقد أو يغيب، فينفق رجل على أهله وولده، فيقدم أو يموت في غيبته، فيعلم أنه قد كان عديما في غيبته، هل يتبعه بما أنفق على أهله وولده؟ فقال: لا يتبعه بما أنفق، قلت: فيرجع بما أنفق على المرأة عليها؟ قال: نعم ولا يتبع الولد بشيء.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه لا يتبعه إذا كان عديما بما أنفق على أهله وولده صحيح. على معنى ما في المدونة وغيرها؛ لأنه إذا كان عديما فلا نفقة لابنه عليه، وكذلك الزوجة، وإنما هي بالخيار بين أن تفارقه أو تبقى معه بغير نفقة. وقال: يرجع على المرأة بما أنفق عليها يتبعها به، وإن لم يكن لها مال. قال: لأنها كبيرة مالكة أمر نفسها فلا تذهب نفقته عليها باطلا؛ لأن رضاها بإنفاقه عليها رضى منها باتباعه ذمتها، بخلاف الولد الصغير؛ لأن الولد إذا لم يكن له مال، ولا لأبيه فهو كاليتيم الذي لا مال له، لا شيء لمن أنفق عليه؛ لأن نفقته عليه على وجه الحسبة؛ إذ ليس له أن يوجب في ذمته دينا بغير رضاه ولا برضاه؛ إذ ليس ممن يجوز على نفسه رضاه، وإذا كان له أو لليتيم مال، فللمنفق عليهما أن يرجع بنفقته في أموالهما إذا كانت له بالنفقة بينة، وإن لم يشهد أنه إنما أنفق ليرجع بعد يمينه أنه إنما أنفق عليهما ليرجع في أموالهما لا على وجه الحسبة، وكذلك إذا لم يكن للابن مال، وأبوه موسر؛ لأن يسر الأب في هذا كمال الابن. وروى محمد بن يحيى السبئي عن مالك: أنه ليس له أن يرجع في أموالهما إلا أن يكون قد أشهد أنه إنما ينفق ليرجع في ذلك. وهذا إذا أنفق على اليتيم، وهو يعلم أن له مالا، أو على الابن وهو يعلم أن له مالا، أو أن أباه موسر. وأما إذا أنفق عليهما وهو يظن أنه لا مال لليتيم، ولا للابن، ولا لأبيه، علم أن لهما مال أو أن أب الابن موسر، فليس له أن يرجع، وقيل: له أن يرجع. والقولان قائمان في المدونة، وبالله التوفيق.

.مسألة طلق المريض امرأته النصرانية أو الأمة في حال الحجر ألبتة:

من نوازل سحنون قال سحنون: إذا طلق المريض امرأته النصرانية أو الأمة في حال الحجر ألبتة، ثم أسلمت أو أعتقت الأمة في العدة، ثم مات، فلا ميراث لهما؛ لأنه لا يتهم فيهما؛ لأنهما ليستا ممن كان الحجر لهما، وإن كان طلاقه لهما واحدة فأسلمت أو أعتقت في العدة، فله الرجعة؛ لأن الرجعة ليست بنكاح الملك، ألا ترى أن المحرم يرتجع ولا يتزوج؟ وإن أسلمت أو أعتقت في العدة ثم مات في العدة ولم يرتجع، فلها الميراث، وإن مات بعد انقضاء العدة ولم يرتجع، فلا ميراث لها. فخذ هذا على هذا الأصل؛ لأنه أصل قولنا، والذي لم يزل عليه أهل المدينة. وروى أصبغ عن ابن القاسم أن لها الميراث. قال أصبغ: لأنه يتهم أن يكون فر بميراثه حتى خشي أن يسلم أو يعتق، فترثه، فلما علم بذلك طلقها ولو أن مريضا تزوج أمة أو نصرانية، لم يجز ذلك وفسخ؛ لأنه يخاف أن تسلم النصرانية وتعتق الأمة، وقاله أصبغ.
قال محمد بن رشد: الظاهر من قوله: ولو أن مريضا تزوج أمة أو نصرانية، إلى آخر قوله، أنه من قول ابن القاسم، ولا إشكال أن ذلك لا يجوز على مذهب ابن القاسم؛ لأنه إذا كان متهما عنده في طلاقهما، فهو لا شك متهم في نكاحهما، وإنما الكلام هل يجوز له نكاحهما على مذهب سحنون الذي لا يتهمه في طلاقهما؟ والصحيح أن ذلك لا يجوز عنده ولا عند غيره؛ لأنه وإن لم يتهمه في نكاحهما، كما لم يتهمه في طلاقهما، فهو يفسخ من جهة فساد الصداق، للغرر الذي فيه بكونه من الثلث، وإذ لا يدري هل يثبت لها ما سمى أو صداق المثل؟ ومن جهة فساد العقد أيضا؛ إذ لا يمكن إيقاف النكاح حتى ينظر هل يصح أو لا يصح؟ ألا ترى أنهم لم يجيزوا للمريض أن يتزوج في مرضه امرأة قد كان طلقها في ذلك المرض، وإن لم يتهم في توريثها من أجل أنها وارثة، لعلة فساد العقد من هذه الجهة؟ وقد وقع قوله: ولو أن مريضا تزوج أمة أو نصرانية، في بعض الكتب من قول سحنون، وذلك يبين ما ذهبنا إليه أنه لا يخالف ابن القاسم، في أن النكاح لا يجوز، وبالله التوفيق.

.مسألة قال لامرأته أنت طالق كما قال الله في كتابه:

وسئل عن رجل قال لامرأته: أنت طالق كما قال الله في كتابه، قال: يلزمه طلاق السنة.
قال محمد بن رشد: وهذا بين على ما قال؛ لأن طلاق السنة هو الذي أمر الله تعالى به، وأرشد له حيث يقول: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق: 1]، إلى قوله: {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1] وهو الرجعة وطلاق السنة أن يطلق الرجل امرأته طلقة واحدة في طهر لم يمسها فيه، وبالله التوفيق.

.مسألة الحكمين هل يجوز ما فرقا فيه واحدة أو ثلاثا:

من سماع عبد المالك بن الحسن من أشهب وابن وهب قال عبد المالك: وسئل أشهب وأنا أسمع عن الحكمين هل يجوز ما فرقا فيه واحدة أو ثلاثا؟ قال: إن فرقا واحدة فهي واحدة، وإن فرقا ثلاثا فهي ثلاث.
قال محمد بن رشد: اختلف في الحكمين إذا اختلفا في عدد الطلاق أو اتفق على ما فوق الواحدة على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يلزم من ذلك واحدة في الوجهين جميعا، وهو الذي في المدونة، والثاني: أنهما إن اتفقا لزم ما اتفقا عليه، وإن اختلفا لزم من ذلك ما اجتمعا عليه، وهو قول ابن القاسم، والثالث: أنهما إن اتفقا لزم ما اتفقا عليه، وإن اختلفا لم يلزم من ذلك شيء، وهو قول أصبغ، فيأتي في اتفاقهما على ما فوق الواحدة قولان: أحدهما: أن ذلك لازم، والثاني: أنه يلزم من ذلك واحدة، وفي اختلافهما إذا حكم أحدهما بواحدة، والثاني بما فوق الواحدة قولان أيضا: أحدهما: أنه يلزم من ذلك واحدة، والثاني: أن ذلك ساقط لا يلزم منه شيء، وفي اختلافهما إذا حكم أحدهما باثنتين، والثاني بثلاثة ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا يلزم من ذلك شيء، والثاني: أنه يلزم منه واحدة، والثالث: أنه يلزم منه اثنتان. فهذا تلخيص الاختلاف في هذا الباب.

.مسألة يبيع امرأته هل يكون ذلك طلاقها:

وسألت ابن وهب عن الذي يبيع امرأته، هل يكون ذلك طلاقها؟ فقال: لا يكون ذلك طلاقا، ولكن إن طاوعته على البيع وأقرت أن مشتريها قد أصابها طائعة، رجمت، وإن زعمت أنه استكرهها برئت من الحد ولم يكن عليها شيء، وفي كتاب الاستبراء من كتاب أسد، قال ابن القاسم: أرى بيعه طلاقا، قال سحنون عن ابن نافع: وتكون طلقة بائنة، قيل لسحنون: غاب عليها المشتري أو لم يغب قال: نعم.
قال محمد بن رشد: هذا الذي ذكر أنه في كتاب الاستبراء من الأسدية لم يقع في المدونة، وقد مضى ما في هذه المسألة من الاختلاف في أول رسم من سماع ابن القاسم، فأغنى ذلك عن إعادته هنا. وقوله: إنها ترجم إن وطئها مشتريها طائعة، خلاف قول ابن القاسم في رسم جاع من كتاب الحدود في القذف، وسيأتي الكلام على ذلك هنالك إن شاء الله، وبالله التوفيق.

.مسألة يقول لا أجد ما انفق على امرأتي إلا الخبز وحده هل يفرق بينهما:

وسألته عن الرجل يقول: لا أجد ما انفق على امرأتي إلا الخبز وحده، أترى أن يفرق بينهما إذا أرادت فراقه؟ قال: نعم، إلا أن يكون مع الخبز الكسوة.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما مضى في رسم الأقضية من سماع يحيى، وهو مما لا اختلاف فيه، أن على الرجل نفقة زوجته وكسوتها، بنص قول الله عز وجل: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233]، وأنه يجب أن يفرق بينهما لعجزه عنهما أو عن أحدهما، وأنه لا يفرق بينهما إذا قدر من نفقتها على الخبز، ولو يوما بيوم، غير مادوم، ومن الكسوة ما يشبهها ولا يعرها إذا لبسته. واختلف إذا عجز عن القمح، ولم يقدر إلا على الشعير، وأهل البلد لا يأكلونه، على ما مضى القول فيه في رسم الكبش من سماع يحيى. واختلف أيضا إذا عجز عما يشبهها من الكسوة، فقال في رسم الأقضية من سماع يحيى: إنه لا يفرق بينهما ما وجد ما يواري به جسدها من العري، وقال أشهب في كتاب ابن المواز: وليس له أن يقصر بها عما يشبهها على ما مضى القول فيه في رسم الجواب من سماع عيسى، وبالله التوفيق.

.مسألة قام بالنفقة ولم يقم بالكسوة:

وسئل عن الرجل إذا قام بالنفقة ولم يقم بالكسوة، قال: يفرق بينهما.
قلت له: فكم يستانا في الكسوة، إذا قال: أرجو أن يأتي شيء؟ قال: شهرين، قال: وإذا قام بالنفقة لم يعجل عليه في الطلاق.
قلت له: كم يضرب له في الصداق إذا كان يجري النفقة؟
قال: فقال مالك: سنتين أو ثلاثا ورأي ابن وهب ثلاثا.
قال محمد بن رشد: قوله: إذا قام بالنفقة لم يعجل عليه في الطلاق، ويستانا به في الكسوة شهرين، يدل على أنه لا يستانا به في النفقة شهرين، وقد مضى في رسم الجواب من سماع عيسى الاختلاف في قدر ما يتلوم له في النفقة إذا عجز عنها، فلا معنى لإعادة ذلك. وقوله: إنه يضرب له في الصداق إذا كان يجري النفقة السنتين والثلاث، معناه إذا عجز عن الصداق، وأما إذا اتهم بأنه غيب ماله، فلا يوسع له في الأجل. قال ذلك ابن حبيب، إلا أنه جعل حد ما يتلوم له في الصداق إذا عجز عنه واجدا النفقة السنتين قال: ولو عجز عن الصداق والنفقة جميعا لم يوسع عليه في أجل الصداق إلا الأشهر إلى السنة. وهذا إذا طلبته المرأة بالصداق، وتركت أن تطلبه بأجل النفقة والتلوم عليه فيها. قال ذلك محمد بن المواز وهو صحيح، ولو كان له مال ظاهر لحكم عليه بدفع الصداق، وأمر بالبناء على امرأته، وهذا كله قبل الدخول، وأما بعد الدخول فلا يفرق بينهما بعجزه عن الصداق، وهو دين لها تتبعه به متى أيسر قاله مالك في المدونة وغيرها.

.مسألة تدعي أن زوجها طلقها ألبتة وقد صالحته ثم أرادت مراجعته قبل زوج:

ومن سماع أصبغ من ابن القاسم من كتاب الحدود والبيوع قال أصبغ: سألت ابن القاسم عن المرأة تدعي أن زوجها طلقها ألبتة، وقد صالحته ثم أرادت مراجعته قبل زوج، قال: إن شهد عليها بذلك شاهدان، رأيت أن يمنع من مراجعتها ويجبر على ذلك.
قلت: فإن لم يكن إلا شاهد واحد فأنكرت شهادته أو أقرت، وقالت: إنما كنت كاذبة. قال: إن أقرت بأنها كانت قد قالت ذلك، رأيت أن يمنع أيضا ولا تصدق في قولها: إني كنت كاذبة، فإن أنكرت شهادته أصلا وزعمت أنها لم تقل من ذلك شيء رأيت أن تستحلف مع شهادة الشاهد، فإن أبت أن تحلف، لم أر أن تمنع من ذلك بحكم، ويخلى بينها وبين ذلك. وقاله أصبغ.
قال محمد بن رشد: أما إذا ادعت بعد أن صالحها وبانت منه، أنه كان طلقها ثلاثا، فلا اختلاف أعلمه في أنها لا تمكن من الرجوع إليه قبل زوج، وقد وقع في كتاب محمد لابن القاسم في الأمة تحت العبد فتختار نفسها، ولا نية لها، ثم تقول بعد ذلك: أردت الثلاث- إنها لا تصدق إذا لم يتبين ذلك عند اختيارها، ويقال لها: إن كنت صادقة فلا تنكحيه إلا بعد زوج، وليتورع هو عنها. والمعنى في ذلك عندي أنه رأى اختيارها نفسها بطلقة واحدة طلاقا رجعيا يكون للزوج عليها الرجعة، ما دامت في العدة إن أعتق على ما مضى له في رسم إن خرجت من سماع عيسى، فلا يصدقها إن أعتق أنها أرادت الثلاث، لاتهامها أنها أرادت قطع الرجعة عليه، واستحب للزوج أن يتورع عنها فلا يراجعها لاحتمال أن تكون صادقة في قولها. وحملها ابن المواز على أنها معارضة لرواية أصبغ. واختار رواية أصبغ، وقال: إنها حجة عليها. وقوله: إنها تستحلف مع شهادة الشاهد، معناه لشهادة الشاهد؛ لأنها لا تحلف معه بما شهد به، وإنما تحلف على تكذيبه بما شهد به عليها أنها قالته. وفي قوله: إنها إن لم تحلف خلي بينها وبين ذلك نظر؛ إذ لا معنى ليمين لا يوجب النكول عنها حكما، فكان القياس إذا أبت اليمين أن تمنع من ذلك. وقد قال في رسم جاع من كتاب النكاح من سماع عيسى: إنه لا يمين عليها بالشاهد الواحد. وقد مضى في سماع سحنون قبل هذا الاختلاف إذا أقرت بذلك وهي في العصمة، وبالله التوفيق.

.مسألة يغيب ويحتاج أبواه وامرأته وله مال حاضر فيرفعاه إلى السلطان:

ومن كتاب الكراء والأقضية:
قال أصبغ: سألت ابن القاسم عن الذي يغيب ويحتاج أبواه وامرأته وله مال حاضر، فيرفعاه إلى السلطان، قال: يباع ماله وينفق عليهما. قلت: فإن لم يكن له مال حاضر، أيؤمران أن يتداينا عليه، ويقضى لهما بذلك؟ فقال: أما الزوجة فنعم، وأما الأبوان فلا؛ لأنهما لو لم يرفعوا ذلك حتى يقدم فأقر لهم جميعا بذلك، غرم للمرأة، ولم يكن عليه أن يغرم ذلك للأبوين، وإن أقر لهما؛ لأن المرأة نفقتها عليه موسرة كانت أو معسرة، والمرأة تحاص الغرماء إذا رفعت ذلك، وكان يوم أنفقت موسرا، والأبوان ليسا كذلك، قال أصبغ: فنفقة الأبوين لا تجب إلا بفريضة من السلطان حين يجدهما يستحقانها، ويجد له مالا بعد يعديهما فيه وإلا فلا.
قال محمد بن رشد: قوله: إن مال الغائب يباع في نفقة أبويه هو مثل ما في كتاب إرخاء الستور من المدونة وكان الشيوخ يفتون أن أصول الغائب لا تباع في نفقة أبويه، بخلاف نفقة زوجته، ويتأولون أن المراد بمال الغائب الذي يباع في نفقة أبويه عروضه لا أصوله، والفرق عندهم في ذلك بين نفقة الزوجة ونفقة الأبوين أن نفقة الزوجة واجبة حتى يعلم سقوطها، ونفقة الأبوين، ساقطة حتى يعلم وجوبها بمعرفة حياته، وأنه لا دين عليه يغترق ماله، وقد كان القياس على هذا ألا يباع عليه أيضا عروضه في مغيبه، لاحتمال أن يكون حين الحكم عليه بذلك ميتا وأن يكون عليه دين يغترق عروضه، إلا أن ذلك في العروض استحسان. وبهذا المعنى فرقوا أيضا بين نفقة الزوجة والأبوين، في أن الأبوين لا يفرض لهما النفقة عليه في مغيبه وإن كان موسرا، إذا لم يكن له مال حاضر، ولا يومران أن يتداينا عليه، وإن فعلا لم يلزمه من ذلك شيء، بخلاف الزوجة في ذلك كله، ويلزم على الفرق الذي ذكرناه، لو كانت النفقة فرضت لهما عليه قبل مغيبه، فغاب وترك أصوله أن تباع عليه في نفقتها. وقوله: إن المرأة تحاص الغرماء بما أنفقت من يوم رفعت إذا كان يوم أنفقت موسرا، يدل على أنها لا تحاص إلا في الدين المستحدث، مثل قول سحنون في رسم باع غلاما من سماع ابن القاسم. وقد مضى بيان ذلك هنالك. وقوله يعديهما فيه، مثله في كتاب ابن المواز، وهو يدل على أنه محمول على العدم حتى يثبت ملاؤه على ما ذهب إليه ابن الهندي خلاف ما ذهب إليه ابن العطار، وبالله التوفيق.

.مسألة نزلت به يمين في امرأته فأفتى بأن قد بانت منه:

ومن كتاب النكاح:
قال: وسئل ابن القاسم عمن نزلت به يمين في امرأته، فأفتى بأن قد بانت منه، فقال لها: وقال للناس: قد بانت مني، ثم علم أنه لا شيء عليه، قال: لا ينفعه، وأراها قد بانت منه إذا قال ذلك.
قال محمد بن رشد: هذا قول أشهب أيضا، وقد حكى ابن حبيب أنه لا شيء عليه. وقال سحنون في كتاب ابنه: إن قال ذلك على وجه الخبر يخير مما قيل له فلا شيء عليه، وإن قال ذلك يريد الطلاق، طلقت عليه. والذي أقول به في هذا: إنه إن كان الذي أفتى به خطأ مخالفا للإجماع، لا وجه له في الاجتهاد، فلا شيء عليه، وإن كان قول قائل، أو له وجه في الاجتهاد أو مفتيه به من أهل الاجتهاد، فالطلاق له لازم؛ لأن إخباره بذلك التزام منه لفتوى المفتي، فينبغي أن يرد الاختلاف المذكور في المسألة إلى هذا. وهذا كله إذا أتى مستفتيا، وأما إذ أحضرته البينة بقوله لها وللناس: قد بانت مني، ثم ادعى أنه إنما قال ذلك؛ لأنه أفتي أنها قد بانت منه، وهي لم تبن منه ولم يعلم ذلك إلا بقوله، فلا يصدق في ذلك، ويؤخذ بما ظهر من إقراره هو نفسه بالطلاق، ولو كان لما حضرته البينة بقوله: قد بانت مني، وادعى أنه إنما قال ذلك؛ لأنه أفتى به غلطا، أقام البينة على أنه أفتي بذلك، لوجب أن يصدق في أنه قال ذلك كذلك مع يمينه على ذلك، وبالله التوفيق.

.مسألة يقول لامرأته اذهبي فتزوجي فلا حاجة لي بك:

وسئل عن الذي يقول لامرأته: اذهبي فتزوجي فلا حاجة لي بك، قال: إن لم يكن أراد بذلك طلاقا فلا شيء عليه، وقاله أصبغ، وقد قال مالك نحو ذلك.
قال محمد بن رشد: وهذا إذا أتى مستفتيا غير مطلوب، وأما إذا خوصم في قوله وطلب به، فتلزمه اليمين ما أراد بذلك الطلاق؛ لأن الشبهة في قوله: إنه أراد بذلك الطلاق بينة، يبين هذا ما مضى في أول رسم من سماع ابن القاسم، وفي رسم حلف منه، ورسم سن.

.مسألة قالت له امرأته إن لم تتزوج علي فصداقي عليك صدقة:

وسئل عن رجل قالت له امرأته: إن لم تتزوج علي فصداقي عليك صدقة، فقبل ذلك منها ثم طلقها، هل ترجع في صداقها ذلك؟ قال: إذا طلقها بحضرة ذلك وحدثانه رجعت عليه، وإن طلقها بعد ذلك بما يرى أنه لم يطلقها، لمكان ذلك وما أشبهه، لم ترجع عليه بشيء، وكذلك بلغني أن مالكا قاله. وقاله أصبغ، وإن كان الطلاق الذي بحدثان ذلك بيمين نزلت لم يتعمد ولم يستأنف مثل يمين قد كان حلف بها قبل ذلك، فحنث فيها عند ذلك، فلا شيء عليه أيضا. قال أصبغ: سئل ابن القاسم، عن رجل قال لامرأته: إن لم تتركي لي صداقك فأنت طالق فتركته ثم طلقها هل ترجع عليه؟ قال: لا ترجع عليه، وليس لها أن ترجع عليه بشيء طلقها بحدثان ذلك أو بعد ذلك، وليست مثل الأولى، ولو شاءت هذه نظرت لنفسها وقاله أصبغ.
قال محمد بن رشد: الفرق بين المسألتين، أنها في المسألة الأولى إنما تصدقت عليه بالصداق، على أن يمسكها ولا يتزوج عليها؛ لأن هذا هو المعنى فيما اشترطت من ألا يتزوج عليها، فإذا طلقها ولم يمسكها، وجب أن ترجع فيما تصدقت به عليه إن لم يف لها بالمعنى الذي تصدق عليه من أجله، وذلك بمنزلة أن يسألها أن تضع عنه صداقها، فتقول له: أخشى إن فعلت أن تطلقني، فيقول: لا أفعل، فتضع عنه، فيطلقها بفور ذلك، على ما وقع في سماع سحنون، من كتاب جامع البيوع. وأما المسألة الثانية، فإنما هي يمين بالطلاق قد لزمته، لابد أن يقع عليه إن لم تترك له الصداق، فتركها له الصداق، إنما هو فرار من وقوع تلك اليمين التي حلف بها، فلا شيء لها في طلاقه إياها بعد ذلك، إلا أن تنظر لنفسها فتقول: لا أترك لك الصداق إلا على ألا تطلقني بعد ذلك، وهذا بين، والله أعلم.

.مسألة النصراني تسلم امرأته هل عليه أن ينفق عليها ما دامت في العدة:

قال: وسألت ابن القاسم عن النصراني تسلم امرأته، أعليه أن ينفق عليها ما دامت في العدة؟ قال: نعم، هو أحب إلي أن يكون عليه ذلك أن ينفق عليها من يوم تسلم، وقيل: إن يسلم هو؛ لأنه أحق بها ما دامت في العدة، بمنزلة الذي يطلق واحدة، إن عليه أن ينفق عليها ما دامت في عدتها. وهذا ليس يمنعه إلا الإسلام، وإسلامه رجعة، إن أسلم فهي امرأته، فلا رجعة يحدثها، يرثها وترثه، ويكون أولى بها، وإن تركها لا يطلقها حتى تخرج من العدة، فهي امرأته، كما هي على حال ما كانت إذا كان قد أسلم في العدة، وقاله أصبغ كله وبلا مهر، وقد تنزل بالسلطان، فأرسل إلي فقضيت به.
قال محمد بن رشد: قد مضى في رسم باع شاة من سماع عيسى أنه لا نفقة لها، وتكلمت هنالك على توجيه كل واحد من القولين فلا معنى لإعادة ذلك هاهنا.

.مسألة شهد عليه شاهدان بالبتة فطلق عليه القاضي:

قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول فيمن شهد عليه شاهدان بالبتة فطلق عليه القاضي، والرجل يعلم أنهما شهدا عليه بزور أيتزوجها؟ قال: فيما أعلم، نعم، قال أصبغ: يريد إن خفي له النكاح بغير زوج، وأنا لا أرى ذلك؛ لأنه يلبس بذلك على غيره من الجهال، ولعله ممن يقتدى به، وينظر إليه، ويلبس أحكام الإسلام وحدوده، ويعرض نفسه للسلطان، والسلطان لا يعرف حقيقته، وإنما يأخذ بما ظهر، فلا أراه يسعه ذلك فيما بينه وبين الله، وإن خفي لهذا، ولقد أمر أهل العلم الذي يرى الهلال وحده في الفطر ألا يفطر، وأن يصوم وهو يعلم أنه يوم الفطر. وقد نهى الرسول عَلَيْهِ السَّلَامُ عن صيامه لهذا وأشباهه وهو قول أهل العلم من السلف وغيرهم، فيه مجتمع عليه بذلك، فكذلك الأول وأشد وأحرى.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأنه لا شيء عليه في تزويجها قبل زوج إذا علم أن الشاهدين إنما شهدا عليه بزور، من وجه تعريض نفسه للتهمة وعقوبة السلطان، والإلباس على الناس، إذا كان ممن يقتدى به؛ لأن حكم الحاكم بالظاهر لا يحيل الأمر عما هو عليه في الباطن عند من علمه، والأصل في ذلك قول الله عز وجل: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} [البقرة: 188]، الآية، وهو قول النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض» الحديث. ويأتي على مذهب أهل العراق، الذين يرون حكم الحاكم بالطلاق طلاقا في الظاهر والباطن، وأن الرجل إذا علم أن الإمام طلق على الرجل زوجته بشهادة زور، يجوز له أن يتزوجها- أنه لا يحل له أن يتزوجها قبل زوج وإن خفي له ذلك، وأمن من عقوبة السلطان. وأما قوله في الذي يرى هلال شوال وحده: إن أهل العلم أمروه ألا يفطر وأن يصوم لهذا المعنى، فهو مثل ما في الموطأ، والمدونة، وسماع أبي زيد من كتاب الصيام.
واستحب ابن حبيب أن ينوي الفطر. وقد نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن صيامه لهذا وأشباهه، ولا يظهره، والصواب أن هذا هو الواجب عليه أن يفعله، وإن كان مخالفا لظاهر الروايات؛ لأن الصوم من أفعال القلوب، فلا يحل له أن ينوي الصوم وهو يعلم أن ذلك عليه حرام، وبالله التوفيق.

.مسألة يطلق امرأته وهي حائض ولا تعلم ولا يرتجع حتى تطهر من الحيضة فيطلقها:

وسئل ابن القاسم عن الذي يطلق امرأته وهي حائض ولا تعلم، ولا يرتجع حتى تطهر من الحيضة، فيطلقها وهي حائض طاهر منها، ثم تعلم به، أيجبر على الرجعة؟ قال: نعم، يجبر على الرجعة ما لم تنقض العدة من الطلاق الأول، ثلاث حيض، إلا أن يكون قد ارتجع بعد طلاقه إياها وهي حائض، ثم طلقها بعد ذلك وهي طاهر حين طهرت فيها أو من بعد ذلك، فهذا لا يجبر على الرجعة ولا رجعة عليه، قيل لابن القاسم: أرأيت إذا قال: لا أرتجع، ما يصنع به السلطان؟ قال: يجبره. قلت لابن القاسم: وكيف ذلك الإجبار؟ أيقضي عليه بالرجعة ويشهد على القضية عليه بذلك، وتكون رجعة، وتكون امرأته بتلك الرجعة أبدا حتى إن خرجت من العدة وماتا توارثا، إلا أن يحدث طلاقا بعد ذلك؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: قوله: إن المطلق في الحيض يجبر على الرجعة وإن طلقها بعد أن طهرت من تلك الحيضة صحيح، بين في المعنى؛ لأن هذه الطلقة الثانية لا عدة لها ولا تهدم عدة الطلاق الأول، فوجب أن يجبر على الرجعة ما لم تنقض العدة على مذهب ابن القاسم، أو ما لم تطهر من الحيضة الثانية على مذهب أشهب، وقال: إنه إن أبى الرجعة يجبر عليها، والإجبار يكون بأن يقضي عليه بها، ويشهد على القضية، فظاهر هذا أنه لا يضرب ولا يسجن، خلاف ما حكى ابن المواز عن ابن القاسم وأشهب أنه يهدد، فإن أبى سجن، فإن أبى ضرب، ويكون ذلك كله في موضع واحد؛ لأنه مقيم على معصيته، فإن أبى قضي عليه بالرجعة، وألزم إياها. واختلف إذا قضي عليه بها، وألزم إياها كارها ولا نية له في ارتجاعها، هل يجور له وطؤها أم لا؟ فقيل ذلك له جائز؛ لأنها ترجع إلى عصمته بالحكم، وإن كان لذلك كارها كالسيد يجبر عبده على النكاح، فيجوز له الوطء، وقيل: لا يجوز له أن يستمتع بشيء منها، إلا أن ينوي مراجعتها، والأول أظهر. والله أعلم، وبه التوفيق.